-->
مدونة تاعكي محمد     مدونة تاعكي محمد

أسباب وظروف معجزة الإسراء والمعراج

 

أسباب وظروف معجزة الإسراء والمعراج

قبل الحديث عن ظروف هذه المعجزة وأسبابها من المهم أن نعرف تاريخ وقوعها، وهنا أقول وبالله التوفيق أن العلماء اختلفوا في وقت حصول معجزة المعراج على عدة أقوال  ذكرها بدر الدين العيني في عمدة القاري وغيره، فقال رحمه الله: « وَاخْتلف فِي وَقت الْمِعْرَاج، فَقيل: إِنَّه كَانَ قبل المبعث، وَهُوَ شَاذ إلاَّ إِذا حمل على أَنه وَقع فِي الْمَنَام فَلهُ وَجه، وَقيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنة، فِي ربيع الأول، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين، حَتَّى بَالغ ابْن حزم فَنقل الْإِجْمَاع على ذَلِك، وَقَالَ السّديّ: قبل الْهِجْرَة بِسنة وَخَمْسَة أشهر، وَأخرجه من طَرِيقه الطَّبَرِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فعلى هَذَا كَانَ فِي شَوَّال، وَحكى ابْن عبد الْبر: أَنه كَانَ فِي رَجَب، وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ، وَقيل: بِثمَانِيَة عشر شهرا، حَكَاهُ عبد الْبر أَيْضا، وَقيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنة وَثَلَاثَة أشهر، فعلى هَذَا يكون فِي ذِي الْحجَّة، وَبِه جزم ابْن فَارس، وَقيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، حَكَاهُ ابْن الْأَثِير، وَحكى عِيَاض عَن الزُّهْرِيّ: أَنه كَانَ بعد المبعث بِخمْس سِنِين، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث جَابر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَا: ولد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَفِيه بعث، وَفِيه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، وَفِيه مَاتَ.»([1])

وقال المبارك فوري ناقلا لاختلاف العلماء في تعيين زمن هذه المعجزة:

« واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى:

1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، اختاره الطبري.

2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي.

3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة، واختاره العلامة المنصور فوري.

4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.

5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.

6- وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.

وردت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء «1» . أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدا.»([2])

ظروف وأسباب هذه المعجزة:

يمكن أن نعتبر أن معجزة المعراج كانت بمثابة تكريم للنبي ﷺ ومواساة له وشدا لعزيمته على الاستمرار في نشر دعوة الإسلام بقوة ورباطة جأش، وذلك أنه ﷺ مر عليه عام مرير سمي بعام الحزن،  حصر ﷺ ومن معه في شعب أبي طالب، ولما فك الحصار الذي دام ثلاث سنوات،  مات  عمه أبو طالب عقب ذلك ،  وهو الذي كان الحامي له  بعد الله عز وجل، وكان يمنعه من أذى الكفار، فلما مات طاله ﷺ الأذى الجسدي منهم، وماتت أول من صدقت به وواسته بمالها، زوجه خديجة رضي الله عنها، وذهب ﷺ إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فلقي منهم الصد والتكذيب والسخرية والرمي بالحجارة.

قال تقي الدين المقريزي([3]): « فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه من الشعب كان له من العمر تسع وأربعون سنة، وكان خروجهم في السنة العاشرة، وقيل: مكثوا في الشعب سنتين، ويقال: إن رجوع من كان مهاجرا بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج من الشعب....

ومات عقيب ذلك أبو طالب وخديجة، فمات أبو طالب أوّل ذي القعدة، وقيل: في نصف شوال، ولرسول اللَّه من العمر تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، وماتت خديجة رضي اللَّه عنها قبله بخمسة وثلاثين يوما، وقيل:

كان بينهما خمسة وخمسون يوما، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: كان موتهما بعد الخروج من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما، فعظمت المصيبة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بموتهما وسمّاه «عام الحزن»([4]) وقال: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب، لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه- حاميا له ولا ذابا عنه- غير أبي طالب»([5])

قال  سعيد حوى في أساس السنة:«  ويذهب الدكتور البوطي إلى أن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على فراق عمه وزوجه بل لانسداد أبواب الدعوة أمامه، ومع التسليم بالثاني فإنني لا أنفي الأول -أي حزنه على وفاة عمه وزوجته خديجة-لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في كل شيء، ومن ذلك أنه كان أكملهم عواطف، وعاطفتا الوفاء والرحمة كانتا بارزتين عنده، فإذا ما حزن على عمه وفاءً، وعلى زوجته رحمة ووفاء، فلا حرج في ذلك بل هو الكمال بعينه»([6])

أولا: وفاة أبو طالب :

مات أبو طالب درع النبي ﷺ ضد المشركين، لكن الله تعالى لم يكتب له الدخول في الإسلام، فمات على الكفر رغم محاولات النبي ﷺ المتكررة لدعوته إلى الدخول في الإسلام، ففي صحيح البخاري عن« سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ : أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ } الْآيَةَ .»([7])

وكان النبي ﷺ وهو الوفي التقي النقي لم ينسى لعمه هذا المعروف، وظل يستغفر الله لعمه حتى نهاه تعالى بقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ١١٣ [التوبة: 113]

ففي صحيح البخاري من حديث سعيد بن المسيب :« قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}»([8])

ومع ذلك لا زال رسول الله ﷺ   يطمع في أن تنفع عمه  أبا طالب شفاعته ﷺ يوم القيامة ففي صحيح البخاري :« عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ([9]) مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ.»([10])

قال ابن حجر([11]) في الفتح: « قوله : لعله تنفعه شفاعتي ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي ، واستشكل قوله - صلى الله عليه وسلم - : تنفعه شفاعتي بقوله - تعالى - : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } وأجيب بأنه خص ، ولذلك عدوه في خصائص النبي ﷺ»([12])

بل وأخبر ﷺ أنه عمه سيكون عذابه يوم القيامة أهون عذاب أهل النار، روى مسلم في صحيحه :« عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ .»([13])

فموت أبو طالب كان له وقعه الشديد على رسول ﷺ خاصة وأنه مات على غير ملة الإسلام، وبعد وفاته تمكن المشركون من أذية النبي ﷺ قال سعيد حوى : « حاولت قريش أن تأخذ من رسول الله شيئاً قبل وفاة أبي طالب فلم تفلح، فلما توفي آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الإيذاء، ولعل أكثر روايات الإيذاء وقعت في هذه المرحلة مما اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الطائف.» ([14])

ثانيا: وفاة خديجة رضي الله عنها :

أما خديجة رضي الله عنها فقد كانت لها مكانة خاصة عند النبي ﷺ فهي أول زوجاته وكانت إلى جانبه في بداياته الصعبة مع الوحي، وما أصعب البدايات، فلم يتزوج عليها النبي ﷺ حتى ماتت، ففي صحيح مسلم « عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَتَزَوَّجِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ. »([15])

 ومما يدل على مكانتها  رضي الله عنها أن عائشة رضي الله كانت تغار منها رضي الله عنها لكثرة ما كان يذكرها ﷺ؛ ففي صحيح البخاري :« عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا ، وَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ .»([16])

وفي رواية للبخاري أيضا عنها -عائشة-  رضي الله عنها  قالت: « مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ ، وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ.»([17])

وفي صحيح مسلم أخبر النبي ﷺ أنه قد رزق حب خديجة رضي الله عنها»([18])

بل كان ﷺ يغضب إذا ذكرت عنده خديجة رضي عنها بسوء، ففي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها أنها لما رأت النبي ﷺ يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها قالت له :«  لَقَدْ أَخْلَفَكَ اللهُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَعُّرًا مَا كُنْتُ أَرَاهُ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ ، وَإِذَا رَأَى الْمَخِيلَةَ حَتَّى يَعْلَمَ أَرَحْمَةٌ أَوْ عَذَابٌ »([19]).  

توفيت رحمها الله تعالى ورضي عنها، وتركت لنفسها مكانة كبيرة في قلب النبي ﷺ.

ثالثا: ما لقيه النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين في الطائف:

بعد أن ضاقت مكة بدعوة النبي ﷺ ذهب يعرض نفسه على أهل الطائف، وقصد كبارهم، فلم  يكن ردهم  إلى الصد والمنع  والأذى، وكان ذلك اليوم  من أشد الأيام التي مر منها النبي ﷺ، كما أخبر هو ﷺ بذلك عن نفسه، ففي صحيح مسلم عن عروة بن الزبير ¢ « أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ ([20]). فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا .»([21])

ومع  ما لاقاه النبي ﷺ  من أذى أهل الطائف، وجاءه جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال، وهو في لحظة  من الحزن والأسف،  فاقترح عليه الانتقام من القوم   الظالمين، فكان جواب من وصفه الله  تعالى بالرؤوف الرحيم في قوله : ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨ [التوبة: 128]  بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

إنها رحمة عظيمة جعلها الله في قلب نبيه الكريم، وإنه لموقف  عظيم جدير بالتأمل والتدبر، كيف برجل أوذي وكذب وظلم، وهو يريد للناس فقط الخير، وتأتيه فرصة للانتقام، فيدعوا الله   أن يخرج من أصلاب من ظلمه من يوحد الله لا يشرك به شيئا.   اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبنا محمد.

بعد هذه الأحداث الأليمة، وهذا العام من الحزن جاءت التسلية والمدد من الله  تعالى، فأكرمه بمعجزة الإسراء والمعراج،  قال ابن حجر في الفتح بعد أن ذكر الخلاف في المكان الذي كان فيه النبي ﷺ قبيل حدوث المعجزة هل  هو الحجر أم الحطيم ،    أم هما معا، قال « والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ ، وبيتها عند شعب أبي طالب ، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك ، فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس; ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق . وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه  البراق ، وهو يؤيد هذا الجمع . وقيل : الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك ، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو ...»([22])


بقلم الأستاذ تاعكي محمد



([1])  عمدة القاري شرح صحيح البخاري (17/21)أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى  الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت.

([2]) الرحيق المختوم (124)صفي الرحمن المباركفوري (المتوفى: 1427هـ) الناشر: دار الهلال - بيروت (نفس طبعة وترقيم دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع) الطبعة: الأولى.

 ([3]) أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي: مؤرخ الديار المصرية. أصله من بعلبك، ونسبته إلى حارة المقارزة (من حارات بعلبك في أيامه) ولد ونشأ ومات في القاهرة، وولي فيها الحسبة والخطابة والإمامة مرات، واتصل بالملك الظاهر برقوق، فدخل دمشق مع ولده الناصر سنة 810 هـ وعرض عليه قضاؤها فأبى. وعاد إلى مصر. من تآليفه كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - ط) ويعرف بخطط المقريزي، و (السلوك في معرفة دول الملوك - خ) طبع منه الأول وبعض الثاني، و (تاريخ الأقباط - ط) و (البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب - ط) رسالة، و (التنازع والتخاصم في ما بين بني أمية وبني هاشم - ط) و (تاريخ الحبش - ط) وغيرها من المصنفات، توفي رحمه الله سنة : 845هـ. ( ينظر الأعلام للزركلي (1/177-178)).

([4]) هو العام العاشرمن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم وسمى بعام الحزن لأنه كان من المظنون بعد انتهاء المقاطعة الجائرة، التى كانت قريش قد ضربتها على النبى صلى الله عليه وسلم ومن انحاز إليه أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا بين أحب الناس إليه وآثرهم عنده ، وهما عمه أبوطالب وزوجه خديجة رضى الله عنها إلا أنهما قد توفيا فى هذا العام ، وبوفاتهما وفقد الرسول صلى الله عليه وسلم لهما سمى هذا العام بعام الحزن.

([5]) إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع (1/45) أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ) تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   

([6]) الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (1/273) سعيد حوّى (المتوفى 1409 هـ)

الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة  -الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1995 م.

([7]) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله حديث رقم (1360).

([8]) صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن - سورة القصص - باب قوله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء حديث رقم (4772)

([9]) الضحضاح هو القليل الذي لا عمق فيه .

([10]) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب صفة الجنة والنار حديث رقم (6564).

 ([11])  أحمد بن على بن محمد الكنانى العسقلانى من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان بفلسطين مولده ووفاته بالقاهرة انكب على الحديث ورحل فى طلبه وولى القضاء مرة وتصانيفه كثيرة منها ( الدرر الكامنة فى اعيان المائة الثامنة) وأشهرها فتح البارى فى شرح صحيح البخارى، توفي رحمه الله سنة 852 هـ  ( تنظر ترجمته في الأعلام للزركلي (1/178)).

([12])  فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب صفة الجنة والنار (11/439) ابن حجر .

([13]) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب أهون أهل النار عذابا حديث رقم (212)

([14])  الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (1/273) سعيد حوّى (المتوفى 1409 هـ)

 

([15]) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تَعَالَى عنها حديث رقم (2436).

([16]) صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة حديث رقم (3816).

([17]) صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة حديث رقم (3818).

([18]) ينظر صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تَعَالَى عنها حديث رقم (2435).

([19]) صحيح ابن حبان - كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم بذكر أسمائهم رضوان الله عليهم أجمعين - ذكر إكثار المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة بعد وفاتها حديث رقم (7008).

([20])  الأخشبان : تثنية الأخشب ، وقد تقدم اشتقاقه في الأخاشب ، والأخشبان : جبلان يضافان تارة إلى مكة ، وتارة إلى منى ، وهما واحد ، أحدهما أبو قبيس ، والآخر قعيقعان ، ويقال بل هما أبو قبيس والجبل الأحمر المشرف هنالك ، ويسميان الجبجبين أيضا « ينظر  معجم البلدان - حرف الهمزة - باب الهمزة والخاء وما يليهما الأخشبان  (1/122) .

([21]) صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب ما لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أذى المشركين والمنافقين  حديث رقم (1795)..

([22]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب المعراج ( 7/243-244).

مرحبا بتعليقاتكم واستفساراتكم

التعليقات



إتصل بنا

أرشيف المدونة الإلكترونية

Translate

جميع الحقوق محفوظة

مدونة تاعكي محمد

2016