بسم الله الرحمن الرحيم
درس : فقه السيرة النبوية : الغايات والمقاصد .
*مفهوم السيرة
السيرة لغة : تُطلق السيرة في اللغة على السنّة، والطريقة، والحالة
التي يكون عليها الإنسان، سواء أكانت حسنة أم سيئة، نقول: فلان سيرته حسنة، وفلان
سيرته سيئة.
وفي الاصطلاح: هي ما نقل
إلينا من حياة النبي r
منذ ولادته قبل البعثة وبعدها وما رافقها من أحداث
ووقائع حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. فالسيرة تشتمل على وقائع ميلاده r
ونسبه، ومكانة عشيرته، وطفولته وشبابه، ووقائع بعثته،
ونزول الوحي عليه، وأخلاقه، وطريقة حياته، ومعجزاته التي أجراها الله تعالى على
يديه، ومراحل الدعوة المكية والمدنية، وجهاده وسلمه، وأحداث حياته حتى التحاقه
بالرفيق الأعلى.
*أهمية السيرة النبوية:
تتضح أهمية السيرة النبوية فيما يأتي:
1- إن السيرة
النبوية ليست وصفاً لحياة خليفة من الخلفاء، أو حاكم من الحكام أدى دوره ثم انتهى،
ولكنها وصف لطريقة حياة خاتم الرسل r، صاحب
الرسالة العالمية، الذي جعله الله قدوة للمؤمنين، في شؤون الحياة صغيرها وكبيرها،
وما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، وما يتصف به من صفات خلقية، وما أُثر عنه من
سيرة بعد البعثة يعد مصدراً من مصادر التشريع.
2- إن السيرة
النبوية تعد البداية الأولى، لتاريخ الأمة المسلمة، الذي بدأ مع بداية الإسلام، أي
مع بداية بعثته r.
لذلك تعد السيرة النبوية أهم حقبة في تاريخ أمتنا، لأنها الفترة التي تشكل بداية
الإشعاع الحضاري في البشرية قاطبة.
3- إن سيرته r
تقدم لنا الإسلام في صيغ عملية بعد أن تقرأ مبادئه
وقواعده وأحكامه ونفهمها، فقد نقرأ عن عقدية التوكل على الله سبحانه وتعالى، وقد
نسيء فهمها، فنخلط بين التوكل والتواكل، ونهمل الأخذ بالأسباب، فإذا درسنا السيرة
النبوية، فإننا نجد الصورة العملية للتوكل. فالنبي r أعظم من توكل
على الله، ومع ذلك نجده يأخذ بالأسباب في هجرته، إذ اختار صاحباً في الطريق هو أبو
بكر رضي الله عنه، واستأجر من يدلّه على الطريق، واشترى الراحلة، وتزوج بالطعام،
ورصد الطريق وموّه على كفار قريش، واختار أفضل الأوقاف للخروج من مكة، وهكذا فإن
مثل هذا الجانب من سيرته r،
يقدم لنا عقيدة التوكل في صورتها العملية، وكذلك كان r
يعتمد في غزواته، إلى التدريب على القتال، وإعداد
الفرسان؛ وجمع الأموال، وتعبئة الرجال، والتخطيط للمعركة، والتمويه على
الأعداء...، تطبيقاً عملياً لعقيدة التوكل على الله عز وجل، من هنا كانت دراسة
السيرة مهمة لعالم الشريعة، وطالب العلم، والداعية، والقائد والتاجر، وسائر فئات
الجتمع، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، كي يقفوا على مظاهر الاقتداء به r،
ويكون لهم شرف التأسي به، وبذلك يحوزون القبول والرضا من الله عز وجل، ويكتب لهم
شرف الخلود مع رسول الله r
في جنات النعيم.
الغاية من دراسة السيرة النبوية :
للسيرة النبوية فوائد جمة من أهمها: 1- تعميق
الإيمان برسالته r
من خلال فهم شخصيته، والتعرف على ظروف حياته التي عاش
فيها، وأنه لم يكن مجرد إنسان عبقري ارتفع شأنه بين قومه بسبب عبقريته، أو مجرد
مصلح ثار على فساد مجتمعه، ولكنه كان رسول الله r، يتلقى
الوحي، ويبلغ أمر بربه بتوفيقه سبحانه وتأييده.
2- تقديم
النموذج الصالح، والمثل الأعلى في كل شؤون الحياة، وتسهيل سبل الاقتداء به،
ومن الأمثلة
على ذلك حين جاء قومه يعرضون عليه أن يجعلوه رئيساً عليهم، أو يعطوه مالاً وفيراً،
أو يزوجوه أجمل نسائهم مقابل أن يترك دعوته، ثم رفضه صلى الله عليه وسلم لكل هذه
الإغراءات المادية، وموقفه الحاسم الذي عبر عنه بقوله: "والله لو وضعوا الشمس
في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو
أموت دونه" يعد نموذجاً، ومثلاً أعلى للداعية في ثباته على المبدأ، وعدم
مساومته عليه.
إن السيرة النبوية كلها نماذج رائعة، ينتفع بها المسلمون
في كل زمان ومكان على اختلاف شؤونهم والمسلم هو الذي يجمع بين العباد والقيام
بالواجبات الدنيوية، في توازن دون إفراط أو تفريط.
3- تسهيل
تفسير كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والإعانة على فهمها لأن
كثيراً من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تجلّيها الأحداث التي مرت
برسول الله r
وموقفه منها
4- تزويد
الدارس بقدر كبير من الثقافة، والمعارف الإسلامية الصحيحة، في العقيدة والعبادات،
والمعاملات، والعادات، والأخلاق، والعلاقات الدولية، والقيم والمبادئ، والأحداث
التاريخية.
خصائص السيرة النبوية :
تمتاز السيرة النبوية بعدة مزايا تبعث
الثقة والطمأنينة بأحداثها، ووقائعها، وتجعل دراستها ضرورية للعلماء والدعاة،
وفيما يأتي تبيين لعدد من هذه الخصائص:
1- صحتها:
تعدّ السيرة
النبوية أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل عرفته البشرية حتى يومنا هذا حيث وصلت إلينا
أحداثها الثابتة من أصح الطرق، وأقواها ثبوتاً، وذلك:
أ- لأن
القرآن الكريم ذكر جانباً كبيراً ومهماً من أحداثها، ووقائعها، كسيرته r
في بعض غزواته، مثل غزوة بدر وأحد، وسيرته في صراعه مع
اليهود، وسيرته في علاقاته مع بعض زوجاته، وبعض أصحابه. ومعلوم أن القرآن الكريم
اكتمل نزوله في حياة الرسول r،
ومعنى هذا أن تدوين بعض أحداث السيرة قد حصل في حياة صاحبها، وحياة معاصريه الذين
كانوا شهوداً عليها ولم تتعرض للتغيير والتحريف، لأن القرآن الكريم محفوظ بفحفظ
الله له.ومنقول
بالتواتر لا يتطرق إليه شك.
ب- لأن السنة
النبوية نقلت جزءاً كبيراً من أحداث السيرة التي حصلت بعد بعثته r،
باعتبارها جزءاً منها، وقد حظيت السنة بعناية فائقة من العلماء، وتمحيص دقيق لروايتها،
ووضعوا المناهج والقواعد العلمية، لتمييز صحيحها من سقيمها، ونصوا على ذلك بعبارات
واضحة.
ﺟ- إن كُتّاب
السيرة والمؤلفين فيها اعتمدوا في تدوين أحداث السيرة الطريقة الموضوعية، وهي
الطريقة العلمية في نقل الأخبار القائمة على دراسة الأسانيد والمتون ونقدها،
لتثبيت ما هو صحيح منها، وأفادوا من مناهج علماء الحديث بخاصة الجرح والتعديل، ولم
يقحموا تصوراتهم الفكرية، أو انطباعاتهم الشخصية، أو مألوفاتهم البيئية في شيء من
وقائع السيرة.
وعلى أساس هذه القواعد العلمية الموضوعية، لأحداث
التاريخ، وصلت إلينا سيرة النبي r بدءاً من
ولادته، إلى تاريخ وفاته.
2- وضوحها:
عرضت سيرته r
في جميع مراحلها، منذ زواج أبيه بأمه إلى وفاته r
بشكل مفصّل ودقيق مقرونة بسنوات حدوثها، دون انقطاع أو
غموض، فهو كما قال بعض النقاد الغربيين: "إن محمداً r
هو الوحيد الذي ولد في ضوء الشمس".
إن هذا
الوضوح لم يتيسر مثله، ولا قريب منه لأحد من الرسل عليهم السلام، أو أحد من البشر،
فلم نجد شيئاً عن طفولة الأنبياء السابقين، وشبابهم، ومعيشتهم قبل النبوة وكذلك
فإننا لا نعرف إلا القليل عن حياتهم بعد النبوة، مما ورد في الكتاب والسنة، وأما
المصادر الأخرى، غير الإسلامية، فهي موضع شك.
إن ميزة وضوح
السيرة بتفاصيلها، يعطينا صورة مكتملة لشخصية الرسول r
في كل جوانبها، وللظروف والأحوال التي مر بها، وصورة مكتملة للحياة الاجتماعية
التي رافقت سيرة حياته الكريمة.
3- العملية والواقعية:
فالسيرة
النبوية تحكي حياة إنسان أكرمه الله بالرسالة وأجرى على يديه كثيراً من المعجزات،
وحقق من الانتصارات والنجاحات، ما لم يحققه بشر على وجه الأرض، ومع ذلك لم تخرجه
السيرة عن بشريته وإنسانيته، أو تجعل حياته كالأساطير، ولم يحط بهالة من التقديس،
تضفي عليه أوصاف الألوهية، كما فعل كتّاب سيرة بعض الأنبياء، أو روايات البوذيين
عن بوذا، ولهذا ذكرت السيرة مواطن الثناء عليه، كما ذكرت المواطن التي عاتبه الله
فيها.
4- شمولها:
تشمل سيرة
النبي r
كل النواحي الإنسانية، الفردية والجماعية، فهي تحكي
الجوانب الاجتماعية من حياته؛ كزواجه، وعلاقاته بزوجاته وأهله، كما تتحدث عن
الجوانب الشخصية؛ كيتمه، وشبابه، واستقامته وتجارته، وتتحدث عن جوانب دعوته وما
كابده في سبيل تبليغها، وتتحدث عن الجوانب السياسية والإدارية، في سياسة أمته
ورعاية مصالحها، وعن الجوانب العسكرية، وسيرته في أعدائه وعلاقاته بهم.
إن سيرة
شاملة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، مما يجعل حياته كلها موطن قدوة لكل
فئات المجتمع، وأفراده على اختلاف وظائفهم وأعمالهم.
لفهم الدرس أكثر شاهد الفيديو التالي:
مرحبا بتعليقاتكم واستفساراتكم